25 مايو 2008



كتبت : سناء صليحة
د. يوسف ادريس
‏اختفي وجهها وراء طوق ثوبها الأسود الذي رفعته لتجفف دموعا لم يلحظها المارة وإن بدت آثارها الواضحة في تهدج صوتها بعد ظهور التتر الأخير لرائعة بهاء طاهر خالتي صفية والدير التي عرضها التليفزيون مؤخرا‏..‏ كانت شحنتها الانفعالية أكبر من أن تحبسها في صدرها فطفقت تتكلم بعبارات لم تخل من مفردات حياتها الأولي بالقرية وهي تعيد ترتيب بضاعتها الرخيصة علي الرصيف تحدثت عن العلاقة المعقدة التي جمعت بين صفية وحربي والقنصل والحب المحبط عندما يتحول لرغبة مدمرة في الانتقام يؤازرها سياج محكم من التقاليد والاعراف‏..‏لم تكن بطلة الواقعة ـ الحقيقية مائة في المائة ـ ناقدة أدبية ولا باحثة في علم الاجتماع ولا محللة نفسية بل امرأة بسيطة أمية‏..‏ واحدة من ملايين البشر الذين يسعون في الارض في كل صباح سعيا وراء لقمة العيش ولا تتيح لهم أعباء الحياة اليومية رفاهية التطلع أو التفكير لما هو أبعد من ذلك‏..‏ لكن الصدفة البحتة التي جعلت فرشة بضاعتها البسيطة علي مقربة من تليفزيون أحد المقاهي بعثت في عقلها وقلبها أفكارا ورؤي وأحاسيس لم تدركها من قبل وربما لم يكن لها وجود في نفسها علي الاطلاق قبل‏,‏ أن تتعرف علي حربي وصفية‏(‏ والجنصل علي حد تعبيرها‏)‏ علي الشاشة الصغيرة‏.‏ورغم أن كاتبنا العظيم يوسف إدريس كان ماثلا في ذهني طوال الاسبوع الماضي من خلال الندوة التي اقامها المجلس الأعلي للثقافة علي مدي ثلاثة أيام لمناقشة إبداعه القصصي والتي سنعرض لبعض من فاعلياتها من خلال تقرير الزميل عبدالحسيب الخناني إلا أن حالة البائعة البسيطة التي رأيتها بعيني أعادت لسمعي صدي صرخته أهمية أن نتثقف ياناس‏..‏ وأثبتت بما لايدع مجالا للشك كل النتائج النظرية للابحاث الاعلامية التي تناولت تأثير الاعلام المسموع والمرئي والدراما في التعليم والتوعية واعادة صياغة البناء العقلي للانسان ومحاربة الرواسب الثقافية التي تحد من قدرته علي الانفتاح علي رؤي وافكار ومشاعر أرحب وأعظم‏..‏ ولم تكن صيحة يوسف ادريس الشهيرة أهمية أن نتثقف ياناس مكرمته الوحيدة هذا الاسبوع إذ جاء اعلان فوز الطبيب المصري محمد ابراهيم طه بجائزته هذا العام لتترسخ في بؤرة الوعي قضية اعادة اكتشاف تراثنا الثقافي القديم منه والجديد وتسليط الضوء علي أوراق ورؤي وتجارب ثرية تستحق الالتفات اليها وتباعدت بيننا وبينها الشقة لسبب أو لآخر وتخيل مايمكن أن يحدثه بعثها من أثر في وجدان الملايين قراء كانوا أم مستمعين ومشاهدين‏..‏واليوم اذ تتبني دنيا الثقافة الدعوة لاعادة طبع وقراءة أعمال كتاب مصر الذين لم ينالوا شهرة جماهيرية لسبب أو لآخر لرسم خريطة حقيقية للواقع الثقافي المصري في القرن الماضي‏,‏ ندرك تماما أنه لا يمكننا أن نغفل الدور الذي لعبته الاذاعة المصرية في الحركة الثقافية ولا في تشكيل وعي الجماهير آنذاك سواء من خلال أحاديث الصباح الدينية والمساء للمفكرين‏,‏ التي نقلت للمستمع صوت طه حسين وفكري أباظة وتحليل حسين فوزي الأسبوعي للموسيقي العالمية وأغاني أبو الفرج الأصفهاني‏,‏ والبرامج الغنائية مثل خوفر وعذراء الربيع وأرزاق وقطر الندا وغيرها والتي حلقت بمستمع الأربعينيات في فضاء التاريخ والأسطورة والتراث الشعبي‏,‏ وعرفته بأقوي الأصوات مثل زكريا أحمد وكارم محمود وفايدة كامل وعبد الحليم حافظ‏,‏ وجعلته يتذوق الأداء الإذاعي الراقي مع صوت زوزو نبيل وعبد الرحيم الزرقاني ومحمد علوان وصلاح منصور و‏..‏ و‏.‏ وقدمت لمستمع البرنامج الثاني البرنامج الثقافي حاليا روائع المسرح العالمي وبرامج مع الكتاب ومع العلماء وموسوعة حسين فوزي الرائعة لتذوق الموسيقي العالمية‏.‏وكي لا تأخذك الظنون بنا عزيزي القارئ‏,‏ فإن هذا السرد السريع لبعض من كنوز الإذاعة المصرية وأثرها علي الوجدان الثقافي المصري آنذاك لانطرحه لمجرد المشاركة في احتفال الإذاعة بعيدها الثامن والسبعين في‏31‏ مايو‏,‏ الحالي ولا احتفال البرنامج الثاني بعيده الــ‏51‏ قبل أسبوعين‏,‏ ولكن أيضا لتأكيد أهمية إعادة بث هذه الروائع وغيرها ومايمكن ان تحدثه من أثر في مقاومة حالة التسطيح والعشوائية والفهلوة التي لم تعد تقتصر علي العمل الإعلامي والثقافي فامتدت لتطول جوانب كثيرة من حياتنا اليومية‏,‏ والاهم من ذلك أن ندق ناقوس الخطر قبل ضياع هذا التراث النادر بالكامل ومايطرحه من احتمالات لاتنتهي علي الصعيد الثقافي ببثه عبر موجات الاثير أو الاقتصادي بطرحه علي كاسيتات وأقراص ممغنطة وتسويقه داخليا وخارجيا‏,‏ خاصة مع تزايد الجاليات العربية بالخارج التي يهمها أن يتشبع جيل الأبناء بثقافة المنطقة وأن تنطق ألسنتهم اللغة العربية‏.‏إن تلف ونهب عدد من الأشرطة النادرة خاصة المرئية منها التي تسربت للفضائيات معلومة متداولة وملموسة للكثيرين‏,‏ بل ان موقع مصراوي علي الإنترنت قد نشر أخيرا قائمة ببعض أشرطة التراث الغنائي التي تم مسحها وتسجيل برامج جديدة من بينها أغان لعبده السروجي ومحمد فوزي وليلي مراد و‏..‏ و‏..‏ بالإضافة لاختفاء معظم تراث الشيخ زكريا أحمد‏.‏لكن الجديد والمؤسف أن حلقات كاملة من برنامج د‏.‏ حسين فوزي قد اختفت مثلما اختفت فصول من مسرحيات البرنامج الثاني بصوت محمود مرسي وتوفيق الدقن وإحسان القلعاوي وغيرهم فبات من المستحيل بث هذه المسرحيات أو حلقات حسين فوزي لانقطاع تواصلها وضاعت علي الأجيال الجديدة فرصة التعرف علي ملمح ثقافي مختلف عما هو سائد الآن وضاعت منا فرصة المراهنة علي فكرة أن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة والأمل في الأرتقاء بالذوق العام وان يكتشف الإنسان اجمل مافيه ويتعرف علي الفن الحقيقة علي الحياة من منظور اوسع يبعث فيه آلية تفكير جديد مختلف مثلما حدث مع البائعة البسيطة التي جاءت حكايتها في بداية هذه السطور وتصور مايمكن أن يدور في ذهنها إذا ما سمعت الضاحك الباكي لفكري أباظة أو مماليك عبد الرحمن فهمي أو قنديل يحيي حقي‏..‏ أو‏..‏ أو‏..‏إن كثير من التحولات المنتظرة في حياتنا مرهون بوسائل الإعلام خاصة مع وتيرة الحياة المتسارعة وانتشار الأمية‏.‏ ومن وحي صيحة أديبنا يوسف إدريس‏,‏ أهمية ان نتثقف ياناس ندعو الإذاعة في عيدها ان تبادر بعمل جرد فوري وإحصاء لكل محتويات مكتبتها لاكتشاف ماتم مسحه أو فقده ومحاولة استعادته إن امكن وإعادة بثه بصورة منتظمة‏,‏ حماية لما تبقي منه باعتباره سجلا ثقافيا لتاريخ الأمة ومصدا ضد عوامل التدهور وأملا في استعادة مايوشك ان يندثر‏...‏


منقولة من جريدة الاهرام

1 جزاهم الله خيرا علقوا:

Qatarat Nada يقول...

جــــــــــــــــــــــــزاكــــــــمـــ الـــــــــــــــــلـــــــــــــــــه خــــــــــــــــــــــــــــــيـــــــرا